مشهد جزئي مع سعيد سيف

كان يوما شتويا نهاية العام 1978 حين لمحت وجها يتدفق حيوية وعنفواناً. لم يكن اللقاء إلا سريعا، جرى الترتيب له ‘’تنظيميا’’، قال ‘’هذا قدر الذين يحبون وطنهم ويدافعون عن مصالح فئاتهم’’. الوقت يمضي سريعا لكنه لم ينس السؤال عن احتياجاتنا، فقد مضى شهران منذ أبعدت وسبعة طلاب يدرسون في جامعة الكويت إلى العراق الذي شاءت قيادة ثورته أن تبعدنا بعد شهر من محاولة الحصول على مقاعد دراسية في جامعات بغداد والبصرة والموصل.

كانت توجيهاته واضحة: اطلبوا مقعدا دراسيا حتى لا يخسر طلبتنا سنتهم الدراسية التي بدأت للتو، قال ‘’لا تطلبوا أكثر من مقعد دراسي، والباقي نتدبر أمره’’، لكن حتى المقعد الدراسي قد شح في جامعات العراق، فبعد شهر من وصولنا مطار بغداد في الثلاثين من شهر سبتمبر ,1978 طلبت منا قيادته مغادرة القطر الشقيق سريعا.
الى أين الرحيل والوقت يمضي؟

الى الشام (دمشق) عاصمة الامويين، حيث عبق التاريخ وجامعاتها ليست اقل مستوى من عاصمة العباسيين. اذاً فلنركب (التريلة) محملين بقبلات الأحبة في شقتي ‘’الاسكيمو والهداية’’ برأس الحواش، احد احياء بغداد الشعبية. كنا ثمانية في تلك الشقة والتاسع كان الصديق خالد الهاشمي الذي أبعد هو الآخر بعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية. شقة (الاسكيمو) لم تكن تتسع لأكثر من اثنين فهي ليست شقة أصلا بل غرفتين واحدة أضيق من الأخرى، لكننا انحشرنا فيها ونمنا على سطحها وسط جو بغدادي هو طقس صحراوي شديد الحرارة نهارا بارد ليلا.

في (التريلة) التي أقلتنا كان الطريق لدمشق مليء بأحلام متناقضة: حلم الحصول على مقعد دراسي في إحدى الجامعات السورية يمتزج بقلق تكرار الرفض مع الجناح الآخر من حزب البعث العربي الاشتراكي.

‘’اهلا وسهلا بكم.. سنسعى لأن تحصلوا على مقاعد في الجامعة لتواصلوا دراستكم وعلينا الإسراع كي لا يفوت الوقت على الفصل الاول من العام الدراسي’’.

لم يكن لقاء سياسيا على رغم أن الإبعاد من الكويت كان سياسيا بامتياز وعدم قبولنا في الجامعات العراقية هو أيضا كذلك.

أربعة من المبعدين فقط قبلوا في دمشق وعلى الأربعة الآخرين تدبير أمورهم فشدوا الرحيل إلى بيروت لمواصلة مشوار الترحال.

في جامعة بيروت العربية سجلت بكلية الاقتصاد بعد تخصص الرياضيات في الكويت.

بيروت باهرة، كل شيء جديد مبهر: الطريق من الشام، حيث التعرجات والضباب الذي بدأ يداعب قمم الجبال، والنزلة الى بحر بيروت.. حيث تقبع شقة عين المريسة (احد أحياء بيروت) قريبا من كورنيش المنارة الشهير. على الزاوية باتجاه الكورنيش، كان تمثال الزعيم جمال عبدالناصر بهيا يبعث على الاطمئنان بأننا في الشطر الغربي من بيروت التي قسمها خط الحرب الاهلية (الأخضر) إلى شطرين.

يقبل الصيف الساخن سريعا بقرار تنظيمي آخر بخوض المواجهة لإسقاط قرار منع 212 طالب وطالبة من أعضاء الاتحاد الوطني لطلبة البحرين كانوا يدرسون في مختلف الجامعات وغالبيتهم في السنوات الأكاديمية الأخيرة.

قال محمد ‘’ستنزل البحرين وستحمل معك ادبيات ووثائق’’. لا بأس، قلت، وأضفت في سريرتي ‘’لعله امتحان الالتزام التنظيمي.. فليكن’’.

حزمت أمتعتي وذهني سارح في تلك البقعة من دمشق بالقرب من وزارة التربية قلت: لابد أن قرارا صدر من هناك.

كان معي في الطائرة التي أقلتني من بيروت اثنان من كبار الطلبة الذين انهيا دارستهما في الولايات المتحدة وعضو في الهيئة التنفيذية للاتحاد الوطني لطلبة البحرين وزميلة تدرس معي في بيروت.
كان في مقدمة الصف بمطار البحرين القائد الطلابي بعده المتخرجان المنتهية مدة جواز سفرهما، فالزميلة، ثم أنا كلهم مروا إلا أنا. قال موظف الجوازات ‘’انتظر قليلا’’. أيقنت ان خطبا ما سيحدث وعلي التصرف سريعا ففي الحقيبة ما يدخل السجن وتطبيق قانون امن الدولة: بيانات طلابية، بوستكارد للمرحومة فتحية رضي التي ذهبت ضحية إهمال متعدد الإطراف بينما كانت تدرس في القاهرة، الختم الرسمي للهيئة التنفيذية للاتحاد، مجلة المسيرة الناطقة بلسان الاتحاد الطلابي.

انها وجبة دسمة لهم.. دبرها يا رب. تبادلت الحقائب مع زميلتي فسلمتها حقيبتي وأمرتها بمغادرة المطار سريعا. في غرفة التفتيش اكتشف رجل الأمن أن ملابس نسائية كثيرة في الشنطة، سألني ما هذا؟ قلت هدايا من الباليه (سوق المقاصيص عندنا) نثر الملابس على طاولة كان يقف أمامها وقال: رتبها. رتبت الحقيبة فعاد ثانية ينثر الملابس، واصدر نفس الأمر السابق وقال: سيبقى جواز سفرك لدينا وعليك مراجعة الأمن.

فررت من المطار مطلق العنان كما فعل عضو الهيئة التنفيذية. كان صيف 1979 موعدا مع أولئك الذين بث فيهم أبو أمل روح التضحية والعمل المضني، فكان الذين تربوا على يده وأولئك الذين انخرطوا في العمل السياسي يشعرون بفخر انتمائهم وهم يقتربون من تحقيق مطلب السماح لطلبة الجامعات العربية والأجنبية الممنوعين من السفر من مواصلة دراستهم وإعادة جوازات سفرهم إليهم. كانت المسيرات والاعتصام تنتقل من مكان لآخر في المنامة، وكانت مسيرة الأول من سبتمبر في المحرق فاصلة وحاسمة، اذ اصدر أثرها الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه امرا بإعادة جوازات سفر كل الطلبة الذين منعوا في صيف 1977 وكذلك الذين تم التحفظ على جوازاتهم، كان ذلك يوم الثاني عشر من سبتمبر/ أيلول 1979 استلمت جواز السفر واسرعت بمغادرة البحرين والعودة إلى بيروت.

لم يبق من المبعدين الأربعة في بيروت إلا أنا فقد آثر البعض عدم مواصلة الدراسة فيما انتظر آخرون أفق العودة للكويت. بعد شهر في بيروت طرح علي خيار الدراسة في الاتحاد السوفيتي وكنت احضر نفسي للســـفر إلا أن خـــبرا سارا قد وصل: المبعدون من الكويت عـــادوا لمقاعد الدراسة حولت البوصلة للكويت وعدت إلى حيث بدأت.

فرع الاتحاد الوطني لطلبة في الكويت كان الأنشط بين فروع الاتحاد وكان في موقع قريب من البحرين لذلك برزت أهميته السياسية، فكانت زيارات قيادات المعارضة البحرينية لا تتوقف، وكان اسم سعيد سيف يزداد ترددا كلما تعمق العنصر في العمل التنظيمي والسياسي.

مرة حصل الفرع على تبرع عبارة عن سيارة استخدمها الرفاق في النشاط الطلابي وجزئيا في العمل التنظيمي، عرف أبو أمل بالأمر فطلب التوقف عن استغلالها في العمل الحزبي باعتبارها جاءت هدية للاتحاد. تم بيع السيارة وأدخل ريعها في ميزانية فرع الاتحاد. كان صارما مع نفسه قبل أن يكون كذلك مع الآخرين، لذلك تمكن من قيادة التنظيم في أحلك الظروف.

في الابعاد الثاني من الكويت العام 1981 كنت للتو قد انتخبت عضوا في الهيئة التنفيذية للاتحاد في مؤتمره الرابع الذي عقد في دمشق .عدت للكويت في مارس/ آذار من العام نفسه، إلا أن سجن المطار كان ينتظرني باعتباري من المبعدين منذ العام 1978 . بقيت ثلاثة ايام في زنزانة السجن ورحلت إلى دمشق ثانية.

‘’الآن بدأ الجد’’ هكذا قال وتابع ‘’عليك هم الدراسة والهيئة التنفيذية وأشياء آخرى’’. رتبت وضعي من جديد في بيروت التي لم يبق فيها احد من الطلبة الرفاق. قال لي ‘’استلم النشرة’’. أمر قلب كياني رأس على عقب، شاب متحمس يتم إخضاعه لسلسلة امتحانات سياسية وتنظيمية تستمر ثلاث سنوات بين بيروت ودمشق والكويت لتأتي المهمة الأكبر بعدها بشهرين’’، رتب سلسلة لقاءات مع القوى السياسية، ليس هناك إلا أنت في بيروت’’.

في أول إصدار للنشرة التي أتابعها كنت الهث مع الوقت، وكان حسين موسى قد جاء لتشجيعي على خوض التجربة وغادر قبل طباعتها. حملت النشرة للشام، كارتونة من الحجم الكبير تزن قرابة الخمسين كيلوجرام.. اعتله عل ظهري بحماس شبابي وانطلق للطابق الثالث بعد نجاحي في تمريره على الحدود السورية. اقرع الجرس، تفتح ام أمل وتسارعني بكأس ماء ليأتي سعيد سيف يفلفل النشرة سريعا، يطلع على الاخراج بشيء من عدم الرضا. سارعت التجربة الأولى يا أبو أمل يرد ‘’يعطيك العافية’’. سأرجع بيروت بعد قليل قلت له ذلك وتابعت: لدي عمل غدا في ‘’الهدف’’ قال ‘’تنام الليلة هنا وغدا تتكل على الله وسأخبر جماعة الشعبية للاتصال برئيس تحرير الهدف عمر قطيش لعل ذلك يشفع’’.

أمضيت ليلة مليئة بالنقاش والحوار الذي لم يتوقف حتى منتصف الليل، في الخامسة والنصف صباحا سمعت حركته وهو يستل كتابا ليبدأ القراءة، كانت أم أمل تحضر فطورا مميزا. نفطر وتبدأ الحركة تدب في البيت، أمل، خالد، وليد، سلوى، عائشة، كل يتأهب ليوم دراسي جديد.

كانت تلـــك بداية الدخول لأسرة أبي أمل المكونة من خمسة ابناء.

بعد سنوات قـالت أم أمل أنت الابن السـادس الذي لم ألــده.

رضي الموسوي – الوقت – بروفايل – Ù£ مايو ٢٠٠٧

Share your thoughts

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.